سورة النحل - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} لما قال سبحانه: {إن الله يعلم} أي: بالمعلومات التي من جملتها كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون؟ علمهم سبحانه كيف تضرب الأمثال، فقال: {ضرب الله مثلاً} أي: ذكر شيئاً يستدلّ به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه، وبين ما جعلوه شريكاً له من الأصنام. ثم ذكر ذلك فقال: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا} والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له، وهي المملوكية والعجز عن التصرف، فقوله: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَئ} تفسير للمثل وبدل منه، ووصفه بكونه مملوكاً؛ لأن العبد والحرّ مشتركان في كون كل واحد منهما عبد الله سبحانه. ووصفه بكونه لا يقدر على شيء؛ لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات. فهذا الوصف لتمييزه عنهما {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} {من} هي الموصولة، وهي معطوفة على {عبداً} أي: والذي رزقناه {مِنَّا} أي: من جهتنا {رِزْقًا حَسَنًا} من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا، والمراد بكون الرزق حسناً: أنه مما يحسن في عيون الناس، لكونه رزقاً كثيراً مشتملاً على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها. والفاء في قوله: {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ} لترتيب الإنفاق على الرزق، أي: ينفق منه في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع البرّ والمعروف، وانتصاب {سِرّا وَجَهْرًا} على الحال، أي: ينفق منه في حال السرّ وحال الجهر. والمراد: بيان عموم الإنفاق للأوقات، وتقديم السرّ على الجهر مشعر بفضيلته عليه، وأن الثواب فيه أكثر. وقيل: إن {من} في {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} موصوفة، كأنه قيل: وحرّاً رزقناه، ليطابق عبداً.
{هَلْ يَسْتَوُونَ} أي: الحرّ والعبد الموصوفان بالصفات المتقدّمة، وجمع الضمير لمكان من، لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل: إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبارة عن الحرّ الجنس؛ أي من اتصف بتلك الأوصاف من الجنسين، والاستفهام للإنكار، أي: هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضرّاً ولا نفعاً، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه؟ وحاصل المعنى: أنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حرّ قد رزقه الله رزقاً حسناً، فهو ينفق منه، كذلك لا يستوي الربّ الخالق الرازق، والجمادات من الأصنام التي تعبدونها، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع. وقيل: المراد بالعبد المملوك في الآية: هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر: هو المؤمن. والغرض: أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف، وقيل: العبد: هو الصنم، والثاني: عابد الصنم، والمراد: أنهما لا يستويان في القدرة والتصرّف؛ لأن الأوّل جماد، والثاني إنسان.
{الحمد للَّهِ} أي: الحمد لله كله، لأنه المنعم، لا يستحق غيره من العباد شيئاً منه، فكيف تستحق الأصنام منه شيئاً ولا نعمة منها أصلاً لا بالأصالة ولا بالتوسط؛ وقيل: أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد؛ وقيل: أراد قل الحمد لله، والخطاب إما لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لمن رزقه الله رزقاً حسناً، وقيل: إنه لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود، قال: الحمد لله أي: على قوّة هذه الحجة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك حتى يعبدوا من تحقّ له العبادة، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة، ونفي العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم، أو هم يتركون الحق عناداً مع علمهم به، فكانوا كمن لا علم له، وخصّ الأكثر بنفي العلم: إما لكونه يريد الخلق جميعاً، وأكثرهم المشركون، أو ذكر الأكثر، وهو يريد الكلّ، أو المراد أكثر المشركين؛ لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم.
ثم ذكر سبحانه مثلاً ثانياً ضربه لنفسه، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضرّ ولا تنفع فقال: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً} أي: مثلاً آخر أوضح مما قبله وأظهر منه، و{رَّجُلَيْنِ} بدل من مثل وتفسير له، والأبكم العييّ المفحم. وقيل: هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر، ثمّ وصف الأبكم فقال: {لاَّ يَقْدِرُ على شَئ} من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه، وعدم قدرته على النطق، ومعنى {كَلٌّ على مَوْلاهُ} ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله، ووبال على إخوانه، وقد يسمى اليتيم: كلا؛ لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر:
أكول لمال الكلّ قبل شبابه *** إذا كان عظم الكلّ غير شديد
وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقاً، ثم وصفه بصفة رابعة فقال: {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي: إذا وجهه إلى أيّ جهة لا يأت بخير قط؛ لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول. وقرأ يحيى بن وثاب {أينما يوجه} على البناء للمجهول، وقرأ ابن مسعود: {أينما توجه} على صيغة الماضي {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} أي: يأمر الناس بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم.
ويقدر على التصرّف في الأشياء. {وَهُوَ} في نفسه {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} على دين قويم، وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط، قابل أوصاف الأوّل بهذين الوصفين المذكورين للآخر، لأن حاصل أوصاف الأوّل عدم استحقاقه لشيء، وحاصل وصفي هذا أنه مستحق أكمل استحقاق، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكاً له. ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين، مدح نفسه بقوله: {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض} أي: يختصّ ذلك به، لا يشاركه فيه غيره، ولا يستقل به، والمراد: علم ما غاب عن العباد فيهما، أو أراد بغيبهما يوم القيامة، لأن علمه غائب عن العباد، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما. والمعنى: التوبيخ للمشركين والتقريع لهم، أي: أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلاً عاجزاً لا يضرّ ولا ينفع ولا يعلم بشيء من أنواع العلم {وَمَا أَمْرُ الساعة} التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصة به سبحانه: {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} اللمح: النظر بسرعة، ولا بدّ فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي، وكل زمان قابل للتجزئة، ولذا قال: {أَوْ هُوَ} أي: أمرهما {أَقْرَبُ} وليس هذا من قبيل المبالغة، بل هو كلام في غاية الصدق، لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية، ومنها إلى الأبد غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. أو يقال: إن الساعة لما كانت آتية ولا بدّ جعلت من القرب كلمح البصر.
وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها، لأنه يقول للشيء كن فيكون، وقيل: المعنى هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة. ومثله قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 6- 7]. ولفظ {أو} في {أو هو أقرب} ليس للشك، بل للتمثيل. وقيل: دخلت لشك المخاطب، وقيل: هي بمنزلة بل {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته.
ثم إنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته، ونهاية رأفته، فقال: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} وهذا معطوف على قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، أي: أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً لا علم لكم بشيء، وجملة {لا تعلمون شيئاً} في محل نصب على الحال، وقيل: المراد: لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق. وقيل: لا تعلمون شيئاً مما قضي به عليكم من السعادة والشقاوة. وقيل: لا تعلمون شيئاً من منافعكم. والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها اعتباراً بعموم اللفظ، فإن {شيئاً} نكرة واقعة في سياق النفي.
وقرأ الأعمش، وابن وثاب، وحمزة {إمهاتكم} بكسر الهمزة والميم هنا، وفي النور، والزمر، والنجم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.
{وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} أي: ركب فيكم هذه الأشياء، وهو معطوف على {أخرجكم} وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع. والمعنى: جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوباً عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم، وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه، والأفئدة: جمع فؤاد، وهو وسط القلب، منزل منه بمنزلة القلب من الصدر، وقد قدّمنا الوجه في إفراد السمع، وجمع الأبصار والأفئدة، وهو أن إفراد السمع لكونه مصدراً في الأصل يتناول القليل والكثير {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لكي تصرفوا كل آلة فيما خلقت له، فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه، أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر.
ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على كمال قدرته، فقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات} أي: ألم ينظروا إليها حال كونها مسخرات أي: مذللات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة، وسائر الأسباب المواتية لذلك، كرقة قوام الهواء وإلهامها بسط الجناح وقبضه، كما يفعل السابح في الماء {فِى جَوّ السمآء} أي: في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو، وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجوّ {إِلاَّ الله} سبحانه بقدرته الباهرة، فإن ثقل أجسامها، ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها، لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها، ولا اعتمدت على شيء تحتها. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وابن عامر، وحمزة، ويعقوب {ألم تروا} بالفوقية على الخطاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتحتية {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي: إن في ذلك التسخير على تلك الصفة لآيات ظاهرات تدلّ على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بالله سبحانه، وبما جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها الله.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا} الآية قال: يعني الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} الآية، قال: يعني: المؤمن وهذا المثل في النفقة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم نحوه بأطول منه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية، وفي قوله: {مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} قال: كل هذا مثل إله الحق وما تدعون من دونه الباطل.
وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: في المثل الأوّل، يعني بذلك: الآلهة التي لا تملك ضرّاً ولا نفعاً، ولا تقدر على شيء ينفعها {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا} قال: علانية الذي ينفق سرّاً وجهراً لله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن عساكر عنه، قال: نزلت هذه الآية {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا} في رجل من قريش، وعبدة بن هشام بن عمرو، وهو الذي ينفق سرّاً وجهراً، وفي عبدة أبي الجوزاء الذي كان ينهاه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} الآية قال: يعني بالأبكم: الذي هو كلّ على مولاه الكافر {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} المؤمن، وهذا المثل في الأعمال.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عنه أيضاً قال: نزلت هذه الآية {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ} الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر، وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام، وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة، وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، والبخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه أيضاً في قوله: {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} قال: عثمان بن عفان.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {كُلٌّ} قال: الكلّ: العيال، كانوا إذا ارتحلوا حملوه على بعير ذلول، وجعلوا معه نفراً يمسكونه خشية أن يسقط عليهم، فهو عناء وعذاب وعيال عليهم {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} يعني: نفسه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} هو أن يقول: كن فهو كلمح البصر {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} فالساعة كلمح البصر أو هي أقرب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم} قال: من الرحم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فِى جَوّ السمآء} أي: في كبد السماء.


قوله: {والله جعل لكم} معطوف على ما قبله. وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان، ومن تعديد نعم الله عليه، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع. وهو بمعنى: مسكون، أي: تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة. وهذه نعمة، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك، ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا} لما ذكر سبحانه بيوت المدن، وهي التي للإقامة الطويلة، عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة، أي: جعل لكم من جلود الأنعام، وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب {تَسْتَخِفُّونَهَا} أي: يخفّ عليكم حملها في الأسفار وغيرها، ولهذا قال: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} والظعن بفتح العين وسكونها، وقرئ بهما: سير أهل البادية للانتجاع والتحوّل من موضع إلى موضع، ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع *** وجرى ببيتهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضاً {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أثاثا} معطوف على {جعل} أي: وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها. والأنعام: تعمّ الإبل والبقر والغنم كما تقدّم. والأصواف: للغنم، والأوبار: للإبل، والأشعار: للمعز، وهي من جملة الغنم، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة، أعني: الإبل، ونوعي الغنم، والأثاث متاع البيت، وأصله الكثرة والاجتماع، ومنه شعر أثيث، أي: كثير مجتمع، قال الشاعر:
وفرع يزين المتن أسود فاحم *** أثيث كقنو النخلة المتعثكل
قال الخليل أثاثاً، أي: منضماً بعضه إلى بعض، من أثّ إذا أكثر، قال الفراء: لا واحد له، والمتاع: ما يتمتع به بأنواع التمتع، وعلى قول أبي زيد الأنصاري: إن الأثاث المال أجمع: الإبل والغنم والعبيد والمتاع، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام، وقيل: إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به، ومعنى {إلى حِينٍ} إلى أن تقضوا أوطاركم منه، أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى الموت، أو إلى القيامة.
ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام، أو أبنية يستظل بها لفقر، أو لعارض آخر، فيحتاج إلى أن يستظلّ بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك، نبه سبحانه على ذلك فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ مّمَّا خَلَقَ ظلالا} أي: أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة، والحاصل: أن الظلال تعم الأشياء التي تظلّ. ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحرّ والبرد، نبه سبحانه على ذلك فقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} وهي جمع كنّ: وهو ما يستكنّ به من المطر، وهي هنا الغيران في الجبال، جعلها الله سبحانه عدّة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها، ويعتزلون عن الخلق فيها {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} جمع سربال، وهي: القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها.
قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال. ومعنى {تَقِيكُمُ الحر} تدفع عنكم ضرر الحرّ، وخصّ الحرّ ولم يذكر البرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر، لأن ما وقى من الحرّ وقى من البرد. ووجه تخصيص الحرّ بالذكر أن الوقاية منه كانت أهمّ عندهم من الوقاية من البرد لغلبة الحرّ في بلادهم {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} وهي الدروع والجواشن، يتقون بها الطعن والضرب والرمي. والمعنى: أنها تقيهم البأس الذي يصل من بعضهم إلى بعض في الحرب.
{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: مثل ذلك الإتمام البالغ يتمّ نعمته عليكم، فإنه سبحانه قد منّ على عباده بصنوف النعم المذكورة ها هنا وبغيرها، وهو بفضله وإحسانه سيتمّ لهم نعمة الدين والدنيا. {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} إرادة أن تسلموا، فإن من أمعن النظر في هذه النعم لم يسعه إلاّ الإسلام والانقياد للحق. وقرأ ابن محيصن، وحميد {تتم نعمته} بتاءين فوقيتين، على أن فاعله نعمته، وقرأ الباقون بالتحتية على أن الفاعل هو الله سبحانه. وقرأ ابن عباس، وعكرمة {تسلمون} بفتح التاء واللام من السلامة من الجراح، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر اللام من الإسلام. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لأن ما أنعم الله به علينا من الإسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح. وقيل: الخطاب لأهل مكة أي: لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية، والأولى الحمل على العموم، وإفراد النعمة هنا لأن المراد بها المصدر.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي: إن تولوا عنك ولم يقبلوا ما جئت به، فقد تمهد عذرك، فإنما عليك البلاغ لما أرسلت به إليهم {المبين} أي: الواضح، وليس عليك غير ذلك، وصرف الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له.
وجملة {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} استئناف لبيان توليهم، أي: هم يعرفون نعمة الله التي عدّدها، ويعترفون بأنها من عند الله سبحانه، ثم ينكرونها بما يقع من أفعالهم القبيحة من عبادة غير الله وبأقوالهم الباطلة، حيث يقولون: هي من الله ولكنها بشفاعة الأصنام. وحيث يقولون: إنهم ورثوا تلك النعم من آبائهم، وأيضاً كونهم لا يستعملون هذه النعم في مرضاة الربّ سبحانه، وفي وجوه الخير التي أمرهم الله بصرفها فيها. وقيل: نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه، ثم ينكرون نبوّته {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي: الجاحدون لنعم الله، أو الكافرون بالله. وعبر هنا بالأكثر عن الكلّ، أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر بعضهم كفر جهل، وكفر بعضهم بسبب تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم مع اعترافهم بالله وعدم الجحد لربوبيته، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} [النمل: 14].
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {سكنا} قال: تسكنون فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي نحوه قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا} وهي خيام العرب {تَسْتَخِفُّونَهَا} يقول: في الحمل {ومتاعا} يقول بلاغاً {إلى حِينٍ} قال: إلى الموت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} قال: بعض بيوت السيارة بنيانه في ساعة، وفي قوله: {وَأَوْبَارِهَا} قال: الإبل {وَأَشْعَارِهَا} قال: الغنم.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {أَثَاثاً} قال: الأثاث المتاع.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الأثاث المال {ومتاعا إلى حِينٍ} يقول: تنتفعون به إلى حين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا} قال: من الشجر ومن غيرها {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} قال: غارات يسكن فيها {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} قال: من القطن والكتان والصوف {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} من الحديد {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} ولذلك هذه السورة تسمى سورة النعم.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} قال: يعني: الثياب، {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} قال: يعني: الدروع والسلاح {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} يعني: من الجراحات، وكان ابن عباس يقرؤها {تسلمون} كما قدّمنا، وإسناده ضعيف.


لما بين سبحانه من حال هؤلاء أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وأن أكثرهم كافرون، أتبعه بأصناف وعيد يوم القيامة، فقال: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أي: واذكر يوم نبعث، أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وشهيد كل أمة نبيها، يشهد لهم بالإيمان والتصديق، وعليهم بالكفر والجحود والتكذيب {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: في الاعتذار، إذ لا حجة لهم ولا عذر، كقوله سبحانه: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] أو في كثرة الكلام، أو في الرجوع إلى دار الدنيا، وإيراد {ثم} ها هنا للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنبيء عن الإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لأن العتاب إنما يطلب لأجل العود إلى الرضا، فإذا كان على عزم السخط، فلا فائدة في العتاب. والمعنى: أنهم لا يسترضون أي: لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون، وأصل الكلمة من العتب وهو الموجد، يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا أفاض عليه ما عتب فيه عليه قيل: عاتبه، فإذا رجع إلى مسرّته قيل: أعتبه، والاسم العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب قاله الهروي، ومنه قول النابغة:
فإن كنت مظلوماً فعبداً ظلمته *** وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
{وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} أي: وإذا رأى الذين أشركوا العذاب الذي يستحقونه بشركهم، وهو عذاب جهنم {فَلاَ يُخَفَّفُ} ذلك العذاب {عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: ولا هم يمهلون ليتوبوا، إذ لا توبة هنالك {وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ} أي: أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، لما تقرّر من أنهم يبعثون مع المشركين ليقال لهم: «من كان يعبد شيئاً فليتبعه»، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم. {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} أي: الذين كنا نعبدهم من دونك. قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين بهذا القول إحالة الذنب على تلك الأصنام تعللاً بذلك، واسترواحاً، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة، ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه. {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} أي: ألقى أولئك الأصنام والأوثان والشياطين ونحوهم إلى المشركين القول: {إِنَّكُمْ لكاذبون} أي قالوا لهم: إنكم أيها المشركون لكاذبون فيما تزعمون من إحالة الذنب علينا الذي هو مقصودكم من هذا القول.
فإن قيل: إن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، وقد كانوا صادقين في ذلك، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها؟ فالجواب بأن مرادهم من قولهم {هؤلاء شركاؤنا} هؤلاء شركاء الله في المعبودية، فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة.
والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق، فإن الله سبحانه ينطقها في تلك الحال، لتخجيل المشركين وتوبيخهم، وهذا كما قالت الملائكة {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41]. يعنون: أن الجنّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لهم.
{وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} أي: ألقى المشركون يوم القيامة الاستسلام والانقياد لعذابه، والخضوع لعزته. وقيل: استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: ضاع وبطل ما كانوا يفترونه من أن لله سبحانه شركاء وما كانوا يزعمون من شفاعتهم لهم، وأن عبادتهم لهم تقرّبهم إلى الله سبحانه.
{الذين كَفَرُواْ} في أنفسهم {وَصُدُّواْ} غيرهم {عَن سَبِيلِ الله} أي: عن طريق الحق، وهي: طريق الإسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها وحملوهم على الكفر. وقيل: المراد بالصدّ عن سبيل الله: الصدّ عن المسجد الحرام. والأولى العموم. ثم أخبر عن هؤلاء الذين صنعوا هذا الصنع بقوله: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} أي: زادهم الله عذاباً لأجل الإضلال لغيرهم فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم. وقيل: المعنى: زدنا القادة عذاباً فوق عذاب أتباعهم، أي: أشد منه. وقيل: إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير، وقيل غير ذلك.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ} أي: نبياً يشهد عليهم {مّنْ أَنفُسِهِمْ} من جنسهم، إتماماً للحجة وقطعاً للمعذرة، وهذا تكرير لما سبق لقصد التأكيد والتهديد {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {شَهِيدًا على هَؤُلآء} أي: تشهد على هذه الأمم وتشهد لهم. وقيل: على أمتك، وقد تقدّم مثل هذا في البقرة والنساء {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} أي: القرآن. والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال بتقدير قد {تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ} أي: بياناً له، والتاء: للمبالغة، ونظيره من المصادر التلقاء، ولم يأت غيرهما. ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَئ} [الأنعام: 38]. ومعنى كونه {تبياناً لكلّ شيء} أن فيه البيان لكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقي منها على السنة، وأمرهم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به من الأحكام، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك.
وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني أوتيت القرآن ومثله معه» {وهدى} للعباد {وَرَحْمَةً} لهم {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} خاصة دون غيرهم، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم؛ لأنهم المنتفعون بذلك.
ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبة آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقاً لذلك، فقال: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان}.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان؛ فقيل: العدل لا إله إلاّ الله، والإحسان: أداء الفرائض. وقيل: العدل الفرض. والإحسان: النافلة. وقيل: العدل: استواء العلانية والسريرة، والإحسان. أن تكون السريرة أفضل من العلانية. وقيل: العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضل، والأولى: تفسير العدل بالمعنى اللغوي، وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. فمعنى أمره سبحانه بالعدل: أن يكون عباده في الدين على حالة متوسطة، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط، وهو الغلوّ المذموم في الدين، ولا إلى جانب التفريط، وهو الإخلال بشيء مما هو من الدين. وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب، كصدقة التطوّع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها.
وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه، فقال في حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين: «والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهذا هو معنى الإحسان شرعاً.
{وَإِيتَآء ذِى القربى} أي: إعطاء القرابة ما تدعو إليه حاجتهم. وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب وترغيب في التصدق عليهم. وهو من باب عطف الخاص على العام، إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان. وقيل: من باب عطف المندوب على الواجب. ومثل هذه الآية قوله: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]. وإنما خصّ ذوي القربى لأن حقهم آكد، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، وقطيعتها من قطيعته.
{وينهى عَنِ الفحشاء} هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل. وقيل: هي الزنا. وقيل: البخل {والمنكر} ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعمّ جميع المعاصي على اختلاف أنواعها. وقيل: هو الشرك وأما {البغى} فقيل: هو الكبر، وقيل: الظلم. وقيل: الحقد، وقيل: التعدّي، وحقيقته تجاوز الحدّ فيشمل هذه المذكورة، ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر. وإنما خصّ بالذكر اهتماماً به لشدّة ضرره ووبال عاقبته. وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها لقوله سبحانه: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} [يونس: 23]، وهذه الآية هي من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: يعظكم بما ذكره في هذه الآية مما أمركم به ونهاكم عنه. فإنها كافية في باب الوعظ والتذكير، {لعلكم تذكرون} إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره، فتتعظوا بما وعظكم الله به.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} قال: شهيدها نبيّها على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هَؤُلآء} قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، فاضت عيناه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} قال: حدّثوهم.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} قال: استسلموا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد بن السرّي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث والنشور، عن ابن مسعود في قوله: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال.
وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} فقال: «عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم».
وأخرج أبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} أنهار من نار صبها الله عليهم يعذبون ببعضها بالليل، وببعضها بالنهار، وقد روى ابن مردويه من حديث جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الزيادة خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رءوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار النهار فذلك قوله: {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب}»
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود، قال: إن الله أنزل في هذا الكتاب تبياناً لكل شيء، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، ثم قرأ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ}.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن الضريس في فضائل القرآن، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، والطبراني، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود، قال: من أراد العلم، فليثور القرآن، فإن فيه علم الأوّلين والآخرين.
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، إذ شخص بصره فقال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية» وفي إسناده شهر بن حوشب.
وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده لا بأس به.
وقد أخرجه مطوّلاً أحمد، والبخاري في الأدب، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه من حديث ابن عباس. وحسن ابن كثير إسناده.
وأخرج الماوردي، وابن السكن، وابن منده، وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير، أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي، حكيم العرب قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، ثم قال لقومه: كونوا في هذا الأمر رؤوساً، ولا تكونوا فيه أذناباً، وكونوا فيه أوّلاً ولا تكونوا فيه آخراً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله. {والإحسان} أداء الفرائض {وَإِيتَآء ذِى القربى} قال: إعطاء ذوي الأرحام الحق الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم. {وينهى عَنِ الفحشاء} قال: الزنا {والمنكر} قال: الشرك {والبغى} قال: الكبر والظلم {يَعِظُكُمُ} قال: يوصيكم {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، ومحمد بن نصر في الصلاة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب قال: أعظم آية في كتاب الله {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم} [البقرة: 255]. وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان}. وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2- 3]. وأشدّ آية في كتاب الله رجاء: {ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية.
وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن أنه قرأ هذه الآية: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} إلى آخرها، ثم قال: إن الله عزّ وجلّ جمع لكم الخير كله، والشرّ كله، في آية واحدة، فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئاً إلاّ جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلاّ جمعه.
وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الكلبي عن أبيه قال: مرّ عليّ بن أبي طالب بقوم يتحدثون، فقال: فيم أنتم؟ قالوا: نتذاكر المروءة. فقال: أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذلك في كتابه، إذ يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} فالعدل: الإنصاف، والإحسان: التفضل، فما بقي بعد هذا!.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6